سورة الحج - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحج)


        


المضارع قد لا يلحظ فيه زمان معين من حال أو استقبال فيدل إذ ذاك على الاستمرار، ومنه {ويصدون عن سبيل الله} كقوله {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله} وقيل: هو مضارع أريد به الماضي عطفاً على {كفروا} وقيل: هو على إضمار مبتدأ أي وهم {يصدون} وخبر إن محذوف قدره ابن عطية بعد {والباد} خسروا أو هلكوا وقدره الزمخشري بعد قوله {الحرام} نذيقهم {من عذاب أليم} ولا يصح تقديره بعده لأن الذي صفة {المسجد الحرام} فموضع التقدير هو بعد {والباد} لكن مقدر الزمخشري أحسن من مقدر ابن عطية لأنه يدل عليه الجملة الشرطية بعد من جهة اللفظ، وابن عطية لحظ من جهة المعنى لأن من أذيق العذاب خسر وهلك. وقيل: الواو في {ويصدون} زائدة وهو خبر إن تقديره إن الذين كفروا يصدون. قال ابن عطية: وهذا مفسد للمعنى المقصود انتهى. ولا يجيز البصريون زيادة الواو وإنما هو قول كوفي مرغوب عنه.
وهذه الآية نزلت عام الحديبية حين صدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام وذلك أنه لم يعلم لهم صد قبل ذلك بجمع إلاّ أن يراد صدهم لأفراد من الناس فقد وقع ذلك في صدر المبعث، والظاهر أنه نفس المسجد ومن صد عن الوصول إليه فقد صد عنه. وقيل: الحرم كله لأنهم صدوه وأهله عليه السلام فنزلوا خارجاً عنه لكنه قصد بالذكر المهم المقصود من الحرم.
وقرأ الجمهور {سواء} بالرفع على أن الجملة من مبتدأ وخبر في موضع المفعول الثاني، والأحسن أن يكون {العاكف والبادي} هو المبتدأ و{سواء} الخبر، وقد أجيز العكس. وقال ابن عطية: والمعنى {الذي جعلناه للناس} قبلة أو متعبداً انتهى. ولا يحتاج إلى هذا التقدير إلاّ إن كان أراد تفسير المعنى لا الإعراب فيسوغ لأن الجملة في موضع المفعول الثاني، فلا يحتاج إلى هذا التقدير. وقرأ حفص والأعمش {سواء} بالنصب وارتفع به {العاكف} لأنه مصدر في معنى مستو اسم الفاعل. ومن كلامهم: مررت برجل سواء هو والعدم، فإن كانت جعل تتعدى إلى اثنين فسواء الثاني أو إلى واحد فسواء حال من الهاء. وقرأت فرقة منهم الأعمش في رواية القطعي {سواء} بالنصب {العاكف فيه} بالجر. قال ابن عطية: عطفاً على الناس انتهى. وكأنه يريد عطف البيان الأولى أن يكون بدل تفصيل.
وقرئ {والبادي} وصلاً ووقفاً وبتركها فيهما، وبإثباتها وصلاً وحذفها وقفاً {العاكف} المقيم فيه {والبادي} الطارئ عليه، وأجمعوا على الاستواء في نفس المسجد الحرام واختلفوا في مكة، فذهب عمر وابن عباس ومجاهد وجماعة إلى أن الأمر كذلك في دوس مكة، وأن القادم له النزول حيث وجد وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أو أبى، وقال به الثوري وكذلك كان الأمر في الصدر الأول.
قال ابن سابط: وكانت دورهم بغير أبواب حتى كثرت السرقة، فاتخذ رجل باباً فأنكر عليه عمر وقال: أتغلق باباً في وجه حاج بيت الله؟ فقال: إنما أردت حفظ متاعهم من السرقة فتركه، فاتخذ الناس الأبواب وهذا الخلاف مترتب على الخلاف في فتح مكة أكان عنوة أو صلحاً؟ وهي مسألة يبحث عنها في الفقه.
والإلحاد الميل عن القصد. ومفعول {يرد} قال أبو عبيدة هو {بإلحاد} والباء زائدة في المفعول. قال الأعشى:
ضمنت برزق عيالنا أرماحنا ***
أي رزق وكذا قراءة الحسن منصوباً قرأ {ومن يرد} إلحاده بظلم أي إلحاداً فيه فتوسع. وقال ابن عطية: يجوز أن يكون التقدير {ومن يرد فيه} الناس {بإلحاد}. وقال الزمخشري: {بإلحاد بظلم} حالان مترادفتان ومفعول {يرد} متروك ليتناول كل متناول، كأنه قال {ومن يرد فيه} مراد إمّا عادلاً عن القصد ظالماً {نذقه من عذاب أليم} وقيل: الإلحاد في الحرم منع الناس عن عمارته. وعن سعيد بن جبير: الاحتكار. وعن عطاء: قول الرجل في المبايعة لا والله وبلى والله انتهى. والأولى أن تضمن {يرد} معنى يتلبس فيتعدى بالباء. وعلق الجزاء وهو {نذقه} على الإرادة، فلو نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب بها إلاّ في مكة وهذا قول ابن مسعود وجماعة. وقال ابن عباس: الإلحاد هنا الشرك. وقال أيضاً: هو استحلال الحرام. وقال مجاهد: هو العمل السيئ فيه. وقال ابن عمر: لا والله وبلى والله من الإلحاد. وقال حبيب بن أبي ثابت: الحكر بمكة من الإلحاد بالظلم، والأولى حمل هذه الأقوال على التمثيل لا على الحصر إذ الكلام يدل على العموم. وقرأت فرقة {ومن يرد} بفتح الياء من الورود وحكاها الكسائي والفراء ومعناه ومن أتى به {بإلحاد} ظالماً.
ولما ذكر تعالى حال الكفار وصدهم عن المسجد الحرام وتوعد فيه من أراد فيه بإلحاد ذكر حال أبيهم إبراهيم وتوبيخهم على سلوكهم غير طريقه من كفرهم باتخاذ الأصنام وامتنانه عليهم بإنفاد العالم إليهم {وإذ بوّأنا} أي واذكر {إذ بوّأنا} أي جعلنا {لإبراهيم مكان البيت} مباءة أي مرجعاً يرجع إليه للعمارة والعبادة. قيل: واللام زائدة أي بوّأنا إبراهيم مكان البيت أي جعلنا يبوء إليه كقوله {لنبوّأنهم من الجنة غرفاً} وقال الشاعر:
كم صاحب لي صالح *** بوّأته بيدي لحدا
وقيل: مفعول {بوّأنا} محذوف تقديره بوّأنا الناس، واللام في {لإبراهيم} لام العلة أي لأجل إبراهيم كرامة له وعلى يديه. والظاهر أن قوله {أن لا تشرك بي شيئاً} خطاب لإبراهيم وكذا ما بعده من الأمر. وقيل: هو خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم {وأن} مخففة من الثقيلة قاله ابن عطية، والأصل أن يليها فعل تحقيق أو ترجيح كحالها إذا كانت مشددة أو حرف تفسير.
قاله الزمخشري وابن عطية وشرطها أن يتقدمها جملة في معنى القول و{بوّأنا} ليس فيه معنى القول، والأولى عندي أن تكون {أن} الناصبة للمضارع إذ يليها الفعل المتصرف من ما ض ومضارع وأمر النهي كالأمر.
قال الزمخشري: فإن قلت: كيف يكون النهي عن الشرك والأمر بتطهير البيت تفسيراً للتبوئة؟ قلت: كانت التبوئة مقصودة من أجل العبادة، فكأنه قيل تعبدنا إبراهيم قلنا له {لا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي} من الأصنام والأوثان والأقذار أن تطرح حوله.
وقرأ عكرمة وأبو نهيك: أن لايشرك بالياء على معنى أن يقول معنى القول الذي قيل له. قال أبو حاتم: ولا بد من نصب الكاف على هذه القراءة بمعنى أن {لا تشرك}. والقائمون هم المصلون ذكر من أركانها أعظمها وهو القيام والركوع والسجود.
وقرأ الجمهور {وأذّن} بالتشديد أي ناد. روي أنه صعد أبا قبيس فقال: يا أيها الناس حجوا بيت ربكم وتقدم قول من قال إنه خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، وقاله الحسن قال: أمر أن يفعل ذلك في حجة الوداع. وقرأ الحسن وابن محيصن وآذن بمدة وتخفيف الذال. قال ابن عطية: وتصحف هذا على ابن جني فإنه حكى عنهما {وأذن} على فعل ماض، وأعرب على ذلك بأن جعله عطفاً على {بوّأنا} انتهى. وليس بتصحيف بل قد حكى أبو عبد الله الحسين بن خالويه في شواذ القراءات من جمعه. وصاحب اللوامح أبو الفضل الرازي ذلك عن الحسن وأبن محيصن. قال صاحب اللوامح: وهو عطف على {وإذ بوّأنا} فيصير في الكلام تقديم وتأخير، ويصير {يأتوك} جزماً على جواب الأمر الذي هو {وطهر} انتهى. وقرأ ابن أبي إسحاق {بالحج} بكسر الحاء حيث وقع الجمهور بفتحها. وقرأ الجمهور {رجالاً} وابن أبي إسحاق بضم الراء والتخفيف، وروي كذلك عن عكرمة والحسن وأبي مجلز، وهو اسم جمع كظؤار وروي عنهم وعن ابن عباس ومجاهد وجعفر بن محمد بضم الراء وتشديد الجيم. وعن عكرمة أيضاً رجالى على وزن النعامى بألف التأنيث المقصورة، وكذلك مع تشديد الجيم عن ابن عباس وعطاء وابن حدير، ورجال جمع راجل كتاجر وتجار.
وقرأ الجمهور {يأتين} فالظاهر عود الضمير {على كل ضامر} لأن الغالب أن البلاد الشاسعة لا يتوصل منها إلى مكة بالركوب، وقد يجوز أن يكون الضمير يشمل {رجالاً} و{كل ضامر} على معنى الجماعات والرفاق. وقرأ عبد الله وأصحابه والضحاك وابن أبي عبلة يأتون غلب العقلاء الذكور في البداءة برجال تفضيلاً للمشاة إلى الحج. وعن ابن عباس: ما آسى على شيء فاتني أن لا أكون حججت ماشياً، والاستدلال بقوله {يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر} على سقوط فرض الحج على من يركب البحر ولا طريق له سواه، لكونه لم يذكر في هذه الآية ضعيف لأن مكة ليست على بحر، وإنما يتوصل إليها على إحدى هاتين الحالتين مشي أو ركوب، فذكر تعالى ما يتوصل به إليها.
وقرأ ابن مسعود فج معيق. قال ابن عباس وغيره من المنافع التجارة. وقال الباقر: الأجر. وقال مجاهد وعطاء كلاهما، واختاره ابن العربي.
قال الزمخشري: ونكر المنافع لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنياوية لا توجد في غيرها من العبادات. وعن أبي حنيفة أنه كان يفاضل بين العبادات قبل أن يحج، فلما حج فضَّل الحج على العبادات كلها لما شاهد من تلك الخصائص، وكنى عن النحر والذبح بذكر اسم الله لأن أهل الإسلام لا ينفكون عن ذكر اسمه إذا نحروا أو ذبحوا، وفيه تنبيه على أن الغرض الأصلي فيما يتقرب به إلى الله أن يذكر اسمه وقد حسن الكلام تحسيناً بيِّناً أن جمع بين قوله ليذكروا اسم الله عليه. وقوله {على ما رزقهم} ولو قيل لينحروا {في أيام معلومات} {بهيمة الأنعام} لم تر شيئاً من ذلك الحسن والروعة انتهى.
واستدل من قال أن المقصود بذكر اسم الله هو على الذبح والنحر على أن الذبح لا يكون بالليل ولا يجوز فيه لقوله {في أيام} وهو مذهب مالك وأصحاب الرأي. وقيل: الذكر هنا حمده وتقديسه شكراً على نعمته في الرزق ويؤيده قوله عليه السلام: «أنها أيام أكل وشرب» وذكر اسم الله والأيام المعلومات أيام العشر قاله ابن عباس والحسن وإبراهيم وقتادة وأبو حنيفة، والمعدودات أيام التشريق الثلاثة. وقالت فرقة منهم مالك وأصحابه: المعلومات يوم النحر ويومان بعده، والمعدودات أيام التشريق الثلاثة، فيوم النحر معلوم لا معدود واليومان بعده معلومان معدودان، والرابع معدود لا معلوم ويوم النحر ويومان بعده هي أيام النحر عند عليّ وابن عباس وابن عمر وأنس وأبي هريرة وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وأبي حنيفة والثوري، وعند الحسن وعطاء والشافعي ثلاثة أيام بعد يوم النحر، وعند النخعي النحر يومان، وعند ابن سيرين النحر يوم واحد، وعن أبي سلمة وسليمان بن يسار الأضحى إلى هلال المحرم. وقال ابن عطية: ويظهر أن تكون المعلومات والمعدودات بمعنى أن تلك الأيام الفاضلة كلها، ويبقى أمر الذبح وأمر الاستعجال لا يتعلق بمعدود ولا معلوم، ويكون فائدة قوله {معلومات} ومعدودات التحريض على هذه الأيام وعلى اغتنام فضلها أي ليست كغيرها فكأنه قال هي مخصوصات فلتغتنم انتهى.
والبهيمة مبهمة في كل ذات أربع في البر والبحر، فبينت بالأنعام وهي الإبل والبقر والضأن والمعز وتقدم الخلاف في مدلول {بهيمة الأنعام} في أول المائدة، والظاهر وجوب الأكل والإطعام. وقيل: باستحبابهما. وقيل: باستحباب الأكل ووجوب الإطعام. و{البائس} الذي أصابه بؤس أي شدة. والتفث: ما يصنعه المحرم عند حله من تقصير شعر وحلقه وإزالة شعثه ونحوه من إقامة الخمس من الفطرة حسب الحديث، وفي ضمن ذلك قضاء جميع مناسكه إذ لا يقضي التفث إلاّ بعد ذلك.
وقال ابن عمر: التفث ما عليهم من الحج وعنه المناسك كلها، والنذور هنا ما ينذرونه من أعمال البر في حجهم. وقيل: المراد الخروج عما وجب عليهم نذروا أو لم ينذروا. وقرأ شعبة عن عاصم {وليوفوا} مشدّداً والجمهور مخففاً {وليطوفوا} هو طواف الإفاضة وهو طواف الزيارة الذي هو من أركان الحج، وبه تمام التحلل. وقيل: هو طواف الصدر وهو طواف الوداع. وقال الطبري: لا خلاف بين المتأولين أنه طواف الإفاضة. قال ابن عطية: ويحتمل بحسب الترتيب أن يكون طواف الوداع انتهى.
و {العتيق} القديم قاله الحسن وابن زيد، أو المعتق من الجبابرة قاله ابن الزبير وابن أبي نجيح وقتادة، كم جبار سار إليه فأهلكه الله قصده تبع ليهدمه فأصابه الفالج، فأشار الأخيار عليه أن يكف عنه وقالوا له: رب يمنعه فتركه وكساه وهو أول من كساه، وقصده أبرهة فأصابه ما أصابه وأما الحجاج فلم يقصد التسليط على البيت لكن تحصن به ابن الزبير فاحتال لإخراجه ثم بناه أو المحرر لم يملك موضعه قط قاله مجاهد، أو المعتق من الطوفان قاله مجاهد أيضاً وابن جبير، أو الجيد من قولهم: عتاق الخيل وعتاق الطير أو الذي يعتق فيه رقاب المذنبين من العذاب. قال ابن عطية: وهذا يردّه التصريف انتهى. ولا يرده التصريف لأنه فسره تفسير معنى، وأما من حيث الإعراب فلأن {العتيق} فعيل بمعنى مفعل أي معتق رقاب المذنبين، ونسب الإعتاق إليه مجازاً إذ بزيارته والطواف به يحصل الإعتاق، وينشأ عن كونه معتقاً أن يقال فيه: يعتق فيه رقاب المذنبين.
{ذلك} خبر مبتدأ محذوف قدّره ابن عطية فرضكم {ذلك} أو الواجب {ذلك} وقدّره الزمخشري الأمر أو الشأن {ذلك} قال كما يقدم الكاتب جملة من كتابه في بعض المعاني، ثم إذا أراد الخوض في معنى آخر قال: هذا وقد كان كذا انتهى. وقيل: مبتدأ محذوف الخبر أي {ذلك} الأمر الذي ذكرته. وقيل في موضع نصب تقديره امتثلوا {ذلك} ونظير هذه الإشارة البليغة قول زهير وقد تقدم له جمل في وصف هرم:
هذا وليس كمن يعيا بخطبته *** وسط الندى إذا ما ناطق نطقا
وكان وصفه قبل هذا بالكرم والشجاعة، ثم وصفه في هذا البيت بالبلاغة فكأنه قال: هذا خلقه وليس كمن يعيا بخطبته، والحرمات ما لا يحل هتكه وجميع التكليفات من مناسك الحج وغيرها حرمه، والظاهر عمومه في جميع التكاليف، ويحتمل الخصوص بما يتعلق بالحج وقاله الكلبي قال: ما أمر به من المناسك، وعن ابن عباس هي جميع المناهي في الحج: فسوق وجدال وجماع وصيد. وعن ابن زيد هي خمس المشعر الحرام، والمسجد الحرام، والبيت الحرام، والشهر الحرام، والمحرم حتى يحل.
وضمير {فهو} عائد على المصدر المفهوم من قوله {ومن يعظم} أي فالتعظيم {خير له عند ربه} أي قربة منه وزيادة في طاعته يثيبه عليها، والظاهر أن خيراً هنا ليس أفعل تفضيل.
{وأحلت لكم بهيمة الأنعام} دفعاً لما كانت عليه من تحريم أشياء برأيها كالبحيرة والسائبة، ويعني بقوله {إلا ما يتلى عليكم} ما نص في كتابه على تحريمه، والمعنى {ما يتلى عليكم} آية تحريمه.
ولما حث على تعظيم حرمات الله وذكر أن تعظيمها خير لمعظمها عند الله أتبعه الأمر باجتناب الأوثان وقول الزور لأن توحيد الله ونفي الشركاء عنه وصدق القول أعظم الحرمات، وجمعا في قران واحد لأن الشرك من باب الزور لأن المشرك يزعم أن الوثن يستحق العبادة فكأنه قال {فاجتنبوا} عبادة {الأوثان} التي هي رأس الزور {واجتنبوا قول الزور} كله. و{من} في {من الأوثان} لبيان الجنس، ويقدر بالموصول عندهم أي الرجس الذي هو الأوثان، ومن أنكر أن تكون {من} لبيان الجنس جعل {من} لابتداء الغاية فكأنه نهاهم عن الرجس عاماً ثم عين لهم مبدأه الذي منه يلحقهم إذ عبادة الوثن جامعة لكل فساد ورجس، وعلى القول الأول يكون النهي عن سائر الأرجاس من موضع غير هذا.
قال ابن عطية: ومن قال إن {من} للتبعيض قلب معنى الآية فأفسده انتهى. وقد يمكن التبعيض فيها بأن يعني بالرجس عبادة الأوثان، وقد روي ذلك عن ابن عباس وابن جريج، فكأنه قال: فاجتنبوا من الأوثان الرجس وهو العبادة لأن المحرم من الأوثان إنما هو العبادة، ألا ترى أنه قد يتصور استعمال الوثن في بناء وغير ذلك مما لم يحرمه الشرع؟ فكأن للوثن جهات منها عبادتها، وهو المأمور باجتنابه وعبادتها بعض جهاتها، ولما كان قول الزور معادلاً للكفر لم يعطف على الرجس بل أفرد بأن كرر له العامل اعتناء باجتنابه. وفي الحديث: «عدلت شهادة الزور بالشرك». ولما أمر باجتناب عبادة الأوثان وقول الزور ضرب مثلاً للمشرك فقال {ومن يشرك بالله} الآية. قال الزمخشري: يجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق، فإن كان تشبيهاً مركباً فكأنه قال: من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكاً ليس بعده بأن صور حاله بصورة حال من {خر من السماء} فاختطفته {الطير} فتفرق مرعاً في حواصلها، وعصفت به {الريح} حتى هوت به في بعض المطارح البعيدة، وإن كان مفرقاً فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء والإهواء التي تنازع أوكاره بالطير المختطفة، والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلالة بالريح التي {تهوي} مما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة انتهى. وقرأ نافع {فتخطفه} بفتح الخاء والطاء مشددة وباقي السبعة بسكون الخاء وتخفيف الطاء. وقرأ الحسن وأبو رجاء والأعمش بكسر التاء والخاء والطاء مشددة، وعن الحسن كذلك إلاّ أنه فتح الطاء مشددة. وقرأ الأعمش أيضاً تخطه بغير فاء وإسكان الخاء وفتح الطاء مخففة. وقرأ أبو جعفر والحسن وأبو رجاء: الرياح.


إعراب {ذلك} كإعراب {ذلك} المتقدم، وتقدم تفسير {شعائر الله} في أول المائدة، وأما هنا فقال ابن عباس ومجاهد وجماعة: هي البدن الهدايا، وتعظيمها تسمينها والاهتبال بها والمغالاة فيها. وقال زيد بن أسلم: الشعائر ست: الصفا، والمروة، والبدن، والجمار، والمشعر الحرام، وعرفة، والركن. وتعظيمها إتمام ما يفعل فيها. وقال ابن عمر والحسن ومالك وابن زيد: مواضع الحج كلها ومعالمه بمنى وعرفة والمزدلفة والصفا والمروة والبيت وغير ذلك، وهذا نحو من قول زيد بن أسلم.
وقيل: شرائع دينه وتعظيمها التزامها والمنافع الأجر، ويكون والضمير في {فيها} من قوله {لكم فيها منافع} عائداً على الشعائر التي هي الشرائع أي لكم في التمسك بها {منافع إلى أجل} منقطع التكليف {ثم محلها} بشكل على هذا التأويل. فقيل: الإيمان والتوجه إليه بالصلاة، وكذلك القصد في الحج والعمرة، أي محل ما يختص منها بالإحرام {البيت العتيق} وقيل: معنى ذلك ثم أجرها على رب {البيت العتيق} قيل: ولو قيل على هذا التأويل أن {البيت العتيق} الجنة لم يبعدوا الضمير في إنها عائد على الشعائر على حذف مضاف أي فإن تعظيمها أو على التعظمة، وأضاف التقوى إلى القلوب كما قال عليه الصلاة والسلام: «التقوى ههنا» وأشار إلى صدره. وعن عمر أنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلاثمائة دينار فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعها ويشتري بثمنها بدناً فنهاه عن ذلك وقال: «بل اهدها» وأهدى هو عليه السلام مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب، وكان ابن عمر يسوق البدن مجللة بالقباطي فيتصدق بلحومها وبجلالها، ويعتقد أن طاعة الله في التقرب بها وإهدائها إلى بيته المعظم أمر عظيم لا بد أن يقام به ويسارع فيه، وذكر {القلوب} لأن المنافق يظهر التقوى وقلبه خال عنها، فلا يكون مجداً في أداء الطاعات، والمخلص التقوى بالله في قلبه فيبالغ في أدائها على سبيل الإخلاص.
وقال الزمخشري: فإن تعظيمها {من} أفعال ذوي {تقوى القلوب} فحذفت هذه المضافات، ولا يستقيم المعنى إلاّ بتقديرها لأنه لا بد من راجع من الجزاء إلى {من} ليرتبط به، وإنما ذكرت {القلوب} لأنها مراكز التقوى التي إذا ثبتت فيها وتمكنت ظهر أثرها في سائر الأعضاء انتهى.
وما قدره عار من راجع إلى الجزاء إلى {من} ألا ترى أن قوله فإن تعظيمها من أفعال القلوب ليس في شيء منه ضمير يعود إلى {من} يربط جملة الجزاء بجملة الشرط الذي أدانه {من} وإصلاح ما قاله أن يكون التقدير فأي تعظيمها منه، فيكون الضمير في منه عائداً على من فيرتبط الجزاء بالشرط.
وقرئ {القلوب} بالرفع على الفاعلية بالمصدر الذي هو {تقوى} والضمير في {فيها} عائد على البدن على قول الجمهور، والمنافع درها ونسلها وصوفها وركوب ظهرها {إلى أجل مسمى} وهو أن يسميها ويوجبها هدياً فليس له شيء من منافعها.
قاله ابن عباس في رواية مقسم، ومجاهد وقتادة والضحاك. وقال عطاء: منافع الهدايا بعد إيجابها وتسميتها هدياً بأن تركب ويشرب لبنها عند الحاجة {إلى أجل مسمى} أي إلى أن تنحر. وقيل: إلى أن تشعر فلا تركب إلاّ عند الضرورة. وروى أبو رزين عن ابن عباس: الأجل المسمى الخروج من مكة. وعن ابن عباس {إلى أجل مسمى} أي إلى الخروج والانتقال من هذه الشعائر إلى غيرها. وقيل: الأجل يوم القيامة. وقال الزمخشري: إلى أن تنحر ويتصدق بلحومها ويؤكل منها.
و {ثم} للتراخي في الوقت فاستعيرت للتراخي في الأفعال، والمعنى أن لكم في الهدايا منافع كثيرة في دنياكم ودينكم وإنما يعبد الله بالمنافع الدينية قال تعالى: {تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة} وأعظم هذه المنافع وأبعدها شوطاً في النفع محلها إلى البيت أي وجوب نحرها، أو وقت وجوب نحرها منتهية إلى البيت كقوله {هدياً بالغ الكعبة} والمراد نحرها في الحرم الذي هو في حكم البيت لأن الحرم هو حريم البيت، ومثل هذا في الاتساع قولك: بلغنا البلد وإنما شارفتموه واتصل مسيركم بحدوده. وقيل: المراد بالشعائر المناسك كلها و{محلها إلى البيت العتيق} يأباه انتهى.
وقال القفال: الهدي المتطوع به إذا عطب قبل بلوغ مكة فإن محله موضعه، فإذا بلغ منى فهي محله وكل فجاج مكة. وقال ابن عطية: وتكرر {ثم} لترتيب الجمل لأن المحل قبل الأجل، ومعنى الكلام عند هاتين الفريقين يعني من قال مجاهد ومن وافقه، ومن قال بقول عطاء {ثم محلها} إلى موضع النحر فذكر البيت لأنه أشرف الحرم وهو المقصود بالهدي وغيره، والأجل الرجوع إلى مكة لطواف الإفاضة وقوله {ثم محلها} مأخوذ من إحلال المحرم معناه، ثم أخر هذا كله إلى طواف الإفاضة بالبيت العتيق، فالبيت على هذا التأويل مراد بنفسه قاله مالك في الموطأ انتهى.
والمنسك مفعل من نسك واحتمل أن يكون موضعاً للنسك، أي مكان نسك، واحتمل أن يكون مصدراً واحتمل أن يراد به مكان العبادة مطلقاً أو العبادة، واحتمل أن يراد نسك خاص أو نسكاً خاصاً وهو موضع ذبح أو ذبح، وحمله الزمخشري على الذبح، يقال: شرع الله لكل أمة أن ينسكوا له أي يذبحوا لوجهه على وجه التقرب، وجعل العلة في ذلك أن يذكر اسمه تقدست أسماؤه على المناسك انتهى. وقياس بناء مفعل مما مضارعه يفعل يضم العين مفعل بفتحها في المصدر والزمان والمكان، وبالفتح قرأ الجمهور. وقرأ بكسرها الأخوان وابن سعدان وأبو حاتم عن أبي عمرو ويونس ومحبوب وعبد الوارث إلا القصبي عنه. قال ابن عطية: والكسر في هذا من الشاذ ولا يسوغ فيه القياس، ويشبه أن يكون الكسائي سمعه من العرب.
وقال الأزهري: منسك ومنسك لغتان. وقال مجاهد: المنسك الذبح، وإراقة الدماء يقال: نسك إذا ذبح، والذبيحة نسيكة وجمعها نسك. وقال الفرّاء: المنسك في كلام العرب المعتاد في خير وبر. وقال ابن عرفة {منسكاً} أي مذهباً من طاعة الله، يقال: نسك نسك قومه إذا سلك مذهبهم. وقال الفراء {منسكاً} عيداً وقال قتادة: حجاً.
{ليذكروا اسم الله} معناه أمرناهم عند ذبائحهم بذكر الله، وأن يكون الذبح له لأنه رازق ذلك، ثم خرج إلى الحاضرين فقال {فإلهكم إله واحد فله أسلموا} أي انقادوا، وكما أن الإله واحد يجب أن يخلص له في الذبيحة ولا يشرك فيها لغيره، وتقدم شرح الإخبات. وقال عمرو بن أوس: المخبتون الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا. وقرأ الجمهور {والمقيمي الصلاة} بالخفض على الإضافة وحذفت النون لأجلها. وقرأ ابن أبي إسحاق والحسن وأبو عمرو في رواية {الصلاة} بالنصب وحذفت النون لأجلها. وقرأ ابن مسعود والأعمش والمقيمين بالنون {الصلاة} بالنصب. وقرأ الضحاك: والمقيم الصلاة، وناسب تبشير من اتصف بالإخبات هنا لأن أفعال الحج من نزع الثياب والتجرد من المخيط وكشف الرأس والتردد في تلك المواضع الغبرة المحجرة، والتلبس بأفعال شاقة لا يعلم معناها إلاّ الله تعالى مؤذن بالاستسلام المحض والتواضع المفرط حيث يخرج الإنسان عن مألوفه إلى أفعال غريبة، ولذلك وصفهم بالإخبات والوجل إذا ذكر الله تعالى والصبر على ما أصابهم من المشاق وإقامة الصلوات في مواضع لا يقيمها إلاّ المؤمنون المصطفون والإنفاق مما رزقهم ومنها الهدايا التي يغالون فيها.
وقرأ الجمهور {البدن} بإسكان الدال. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وشيبة وعيسى بضمها وهي الأصل، ورويت عن أبي جعفر ونافع. وقرأ ابن أبي إسحاق أيضاً بضم الياء والدال وتشديد النون، فاحتمل أن يكون اسماً مفرداً بُني على فعل كعتل، واحتمل أن يكون التشديد من التضعيف الجائز في الوقف، وأجرى الوصل مجرى الوقف، والجمهور على نصب {والبدن} على الاشتغال أي وجعلنا {البدن} وقرئ بالرفع على الابتداء و{لكم} أي لأجلكم و{من شعائر} في موضع المفعول الثاني، ومعنى {من شعائر الله} من أعلام الشريعة التي شرعها الله وأضافها إلى اسمه تعالى تعظيماً لها {لكم فيها خير} قال ابن عباس: نفع في الدنيا، وأجر في الآخرة. وقال السدّي أجر. وقال النخعي: من احتاج إلى ظهرها ركب وإلى لبنها شرب {عليها صواف} أي على نحرها. قال مجاهد: معقولة. وقال ابن عمر: قائمة قد صفت أيديها بالقيود. وقال ابن عيسى: مصطفة وذكر اسم الله أن يقول عند النحر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر، اللهم منك وإليك. وقرأ أبو موسى الأشعري والحسن ومجاهد وزيد بن أسلم وشقيق وسليمان التيمي والأعرج: صوافي جمع صافية ونون الياء عمرو بن عبيد.
قال الزمخشري: التنوين عوض من حرف عند الوقف انتهى. والأولى أن يكون على لغة من صرف ما لا ينصرف، ولا سيما الجمع المتناهي، ولذلك قال بعضهم والصرف في الجمع أي كثيراً حتى ادّعى قوم به التخيير أي خوالص لوجه الله تعالى لا يشرك فيها بشيء، كما كانت الجاهلية تشرك.
وقرأ الحسن أيضاً {صواف} مثل عوار وهو على قول من قال فكسرت عار لحمه يريد عارياً وقولهم: اعط القوس باريها. وقرأ عبد الله وابن عمر وابن عباس والباقر وقتادة ومجاهد وعطاء والضحاك والكلبي والأعمش بخلاف عنه صوافن بالنون، والصافنة من البدن ما اعتمدت على طرف رجل بعد تمكنها بثلاث قوائم وأكثر ما يستعمل في الخيل {فإذا وجبت جنوبها} عبارة عن سقوطها إلى الأرض بعد نحرها. قال محمد بن كعب ومجاهد وإبراهيم والحسن والكلبي {القانع} السائل {والمعتر} المعترض من غير سؤال، وعكست فرقة هذا. وحكى الطبري عن ابن عباس {القانع} المستغني بما أعطيه {والمعتر} المعترض من غير سؤال. وحكى عنه {القانع} المتعفف {والمعتر} السائل. وعن مجاهد {القانع} الجار وإن كان غنياً. وقال قتادة {القانع} من القناعة {والمعتر} المعترض للسؤال. وقيل {المعتر} الصديق الزائر. وقرأ أبو رجاء: القنع بغير ألف أي {القانع} فحذف الألف كالحذر والحاذر. وقرأ الحسن والمعتري اسم فاعل من اعترى. وقرأ عمرو وإسماعيل {والمعتر} بكسر الراء دون ياء، هذا نقل ابن خالويه.
وقال أبو الفضل الرازي في كتاب اللوامح أبو رجاء بخلاف عنه، وابن عبيد والمعتري على مفتعل. وعن ابن عباس برواية المقري {والمعتر} أراد المعتري لكنه حذف الياء تخفيفاً واستغناءً بالكسرة عنها، وجاء كذلك عن أبي رجاء. قال ابن مسعود: الهدي أثلاث. وقال جعفر بن محمد أطعم القانع والمعتر ثلثاً، والبائس الفقير ثلثاً، وأهلي ثلثاً. وقال ابن المسيب: ليس لصاحب الهدي منه إلاّ الربع وهذا كله على جهة الاستحباب لا الفرض قاله ابن عطية {كذلك} سخرها لكم أي مثل ذلك التسخير {سخرناها لكم} تأخذونها منقادة فتعقلونها وتحبسونها صافة قوائمها فتطعنون في لباتها، منّ عليهم تعالى بذلك ولولا تسخير الله لم تطق ولم تكن بأعجز من بعض الوحوش التي هي أصغر منها جرماً وأقل قوّة، وكفى بما يتأبد من الإبل شاهداً وعبرة. وقال ابن عطية: كما أمرناكم فيها بهذا كله سخرنا لكم لن ينال الله لحومها ولا دماؤها.
قال مجاهد: أراد المسلمون أن يفعلوا فعل المشركين من الذبح وتشريح اللحم منصوباً حول الكعبة ونضح الكعبة حواليها بالدم تقرّباً إلى الله، فنزلت هذه الآية. وعن ابن عباس قريب منه، والمعنى لن يصيب رضا الله اللحوم المتصدق بها ولا الدماء المهراقة بالنحر، والمراد أصحاب اللحوم والدماء، والمعنى لن يرضى المضحون والمقربون ربهم إلاّ بمراعاة النية والإخلاص والاحتياط بشروط التقوى في حل ما قرب به وغير ذلك من المحافظات الشرعية وأوامر الورع، فإذا لم يراعوا ذلك لم تغن عنهم التضحية والتقريب، وإن كثر ذلك منهم قاله الزمخشري وهو تكثير في اللفظ.
وقرأ مالك بن دينار والأعرج وابن يعمر والزهري وإسحاق الكوفي عن عاصم والزعفراني ويعقوب. وقال ابن خالويه: تناله التقوى بالتاء يحيى بن يعمر والجحدري. وقرأ زيد بن علي {لحومها ولا دماءها} بالنصب {ولكن يُناله} بضم الياء وكرر ذكر النعمة بالتسخير. قال الزمخشري: لتشكروا الله على هدايته إياكم لإعلام دينه ومناسك حجه بأن تكبروا وتهللوا، فاختصر الكلام بأن ضمن التكبير معنى الشكر وعديّ تعديته انتهى. {وبشر المحسنين} ظاهر في العموم. قال ابن عباس: وهم الموحدون وروي أنها نزلت في الخلفاء الأربعة.


الهدم: معروف وهو نقض ما بُني. قال الشاعر:
وكل بيت وإن طالت إقامته *** على دعائمه لا بدّ مهدوم
الصومعة: موضع العبادة وزنها فعولة، وهي بناء مرتفع منفرد حديد الأعلى، والأصمع من الرجال الحديد القول، وكانت قبل الإسلام مختصة برهبان النصارى وبعبّاد الصابئين، قاله قتادة ثم استعمل في مئذنة المسلمين. البيع: كنائس النصارى واحدها بيعة. وقيل: كنائس اليهود. البئر: من بأرت أي حفرت، وهي مؤنثة على وزن فعل بمعنى مفعول، وقد تذكر على معنى القليب. تعطيل الشيء: إبطال منافعه.
{إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوّان كفور أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدّمت صوامع وبيَع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرنّ الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد}.
روى أن المؤمنين لما كثروا بمكة أذاهم الكفار وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة، أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنة من الكفار ويحتال ويغدر، فنزلت إلى قوله {كفور} وعد فيها بالمدافعة ونهى عن الخيانة، وخص المؤمنين بالدفع عنهم والنصرة لهم، وعلل ذلك بأنه لا يحب أعداءهم الخائنين الله والرسول الكافرين نعمه. ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر جملة مما يفعل في الحج، وكان المشركون قد صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية وآذوا من كان بمكة من المؤمنين، أنزل الله تعالى هذه الآيات مبشرة المؤمنين بدفعه تعالى عنهم ومشيرة إلى نصرهم وإذنه لهم في القتال وتمكينهم في الأرض يردهم إلى ديارهم وفتح مكة، وأن عاقبة الأمور راجعة إلى الله تعالى وقال تعالى: {والعاقبة للمتقين} وقرأ الحسن وأبو جعفر ونافع {يدافع} ولولا دفاع الله. وقرأ أبو عمرو وابن كثير يدفع {ولولا دفع} وقرأ الكوفيون وابن عامر {يدافع} {ولولا دفع} وفاعل هنا بمعنى المجرد نحو جاوزت وجزت. وقال الأخفش: دفع أكثر من دافع. وحكى الزهراوي أن دفاعاً مصدر دفع كحسب حساباً. وقال ابن عطية: يحسن {يدافع} لأنه قد عنّ للمؤمنين من يدفعهم ويؤذيهم فتجيء مقاومته، ودفعه مدافعة عنهم انتهى. يعني فيكون فاعل لاقتسام الفاعلية والمفعولية لفظاً والاشتراك فيهما معنى.
وقال الزمخشري: ومن قرأ {يدافع} فمعناه يبالغ في الدفع عنهم كما يبالغ من يغالب فيه لأن فعل المغالب يجيء أقوى وأبلغ انتهى. ولم يذكر تعالى ما يدفعه عنهم ليكون أفخم وأعظم وأعم ولما هاجر المؤمنون إلى المدينة أذن الله لهم في القتال.
وقرأ نافع وعاصم وأبو عمرو بضم همزة {أُذن} وفتح باقي السبعة. وقرأ نافع وابن عامر وحفص {يقاتلون} بفتح التاء والباقون بكسرها، والمأذون فيه محذوف أي في القتال لدلالة {يقاتلون} عليه وعلل للإذن {بأنهم ظلموا} كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين مضروب ومشجوج، فيقول لهم: «اصبروا فإني لم أومر بالقتال» حتى هاجر وهي أول آية أذن فيها بالقتال بعد ما نُهي عنه في نيف وسبعين آية. وقيل: نزلت في قوم خرجوا مهاجرين فاعترضهم مشركو مكة فأذن لهم في مقاتلتهم.
{وإن الله على نصرهم لقدير} وعد بالنصر والإخبار بكونه يدفع عنهم {الذين أخرجوا} في موضع جر نعت للذين، أو بدل أو في موضع نصب بأعني أو في موضع رفع على إضمارهم. و{إلا أن يقولوا} استثناء منقطع فإن {يقولوا} في موضع نصب لأنه منقطع لا يمكن توجه العامل عليه، فهو مقدر بلكن من حيث المعنى لأنك لو قلت {الذين أخرجوا من ديارهم} {إلا أن يقولوا ربنا الله} لم يصح بخلاف ما في الدار أحد إلاّ حمار، فإن الاستثناء منقطع ويمكن أن يتوجه عليه العامل فتقول: ما في الدار إلاّ حمار فهذا يجوز فيه النصب والرفع النصب للحجاز والرفع لتميم بخلاف مثل هذا فالعرب مجمعون على نصبه. وأجاز أبو إسحاق فيه الجر على البدل واتّبعه الزمخشري فقال {أن يقولوا} في محل الجر على الإبدال من {حق} أي بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتمكين لا موجب الإخراج والتبشير، ومثله {هل تنقمون منا إلاّ أن آمنا} انتهى.
وما أجازاه من البدل لا يجوز لأن البدل لا يكون إلاّ إذا سبقه نفي أو نهي أو استفهام في معنى النفي، نحو: ما قام أحد إلاّ زيد، ولا يضرب أحد إلاّ زيد، وهل يضرب أحد إلاّ زيد، وأما إذا كان الكلام موجباً أو أمراً فلا يجوز البدل: لا يقال قام القوم إلاّ زيد على البدل، ولا يضرب القوم إلاّ زيد على البدل، لأن البدل لا يكون إلاّ حيث يكون العامل يتسلط عليه، ولو قلت قام إلاّ زيد، وليضرب إلاّ عمر ولم يجز. ولو قلت في غير القرآن أخرج الناس من ديارهم إلاّ بأن يقولوا لا إله إلاّ الله لم يكن كلاماً هذا إذا تخيل أن يكون {إلاّ أن يقولوا} في موضع جر بدلاً من غير المضاف إلى {حق} وإما أن يكون بدلاً من حق كما نص عليه الزمخشري فهو في غاية الفساد لأنه يلزم منه أن يكون البدل يلي غيراً فيصير التركيب بغير {إلاّ أن يقولوا} وهذا لا يصح، ولو قدرت {إلاّ} بغير كما يقدر في النفي في ما مررت بأحد إلاّ زيد فتجعله بدلاً لم يصح، لأنه يصير التركيب بغير غير قولهم {ربنا الله} فتكون قد أضفت غيراً إلى غير وهي هي فصار بغير غير، ويصح في ما مررت بأحد إلاّ زيد أن تقول: ما مررت بغير زيد، ثم إن الزمخشري حين مثل البدل قدره بغير موجب سوى التوحيد، وهذا تمثيل للصفة جعل إلاّ بمعنى سوى، ويصح على الصفة فالتبس عليه باب الصفة بباب البدل، ويجوز أن تقول: مررت بالقوم إلاّ زيد على الصفة لا على البدل.
{ولولا دفع الله الناس} الآية فيها تحريض على القتال المأذون فيه قبل، وأنه تعالى أجرى العادة بذلك في الأمم الماضية بأن ينتظم به الأمر وتقوم الشرائع وتصان المتعبدات من الهدم وأهلها من القتل والشتات، وكأنه لما قال {أذن للذين يقاتلون} قيل: فليقاتل المؤمنون، فلولا القتال لتغلب على الحق في كل أمة وانظر إلى مجيء قوله {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض} لفسدت الأرض إثر قتال طالوت لجالوت، وقتل داود جالوت. وأخبر تعالى أنه لولا ذلك الدفع فسدت الأرض فكذلك هنا.
وقال عليّ بن أبي طالب: ولولا دفع الله بأصحاب محمد الكفار عن التابعين فمن بعدهم، وأخذ الزمخشري قول عليّ وحسنه وذيل عليه فقال: دفع الله بعض الناس ببعض إظهاره وتسليط المؤمنين منهم على الكافرين بالمجاهدة، ولولا ذلك لاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة في أزمنتهم وعلى متعبداتهم فهدموها ولم يتركوا للنصارى بيعاً ولا لرهبانهم صوامع، ولا لليهود صلوات، ولا للمسلمين مساجد، ولغلب المشركون في أمة محمد صلى الله عليه وسلم على المسلمين وعلى أهل الكتاب الذين في ذمتهم، وهدموا متعبدات الفريقين انتهى.
وقال مجاهد: {ولولا دفع الله} ظلم قوم بشهادات العدول ونحو هذا. وقال قوم {دفع} ظلم الظلمة بعدل الولاة. وقالت فرقة {دفع} العذاب بدعاء الأخيار. وقال قطرب: بالقصاص عن النفوس. وقيل: بالنبيين عن المؤمنين. وقال الحسن: لولا أمان الإسلام لخربت متعبدات أهل الذمة، ومعنى الدفع بالقتال أليق بالآية وأمكن في دفع الفساد.
وقرأ الحرميان وأيوب وقتادة وطلحة وزائدة عن الأعمش والزعفراني {فهدمت} مخففاً وباقي السبعة وجماعة مشددة لما كانت المواضع كثيرة ناسب مجيء التضعيف لكثرة المواضع فتكرر الهدم لتكثيرها. وقرأ الجمهور {وصلوات} جمع صلاة. وقرأ جعفر بن محمد {وصُلوات} بضم الصاد واللام. وحكى عنه ابن خالويه {صلوات} بسكون اللام وكسر الصاد، وحكيت عن الجحدري والجحدري {صلوات} بضم الصاد وفتح اللام، وحكيت عن الكلبي وأبي العالية بفتح الصاد وسكون اللام {صلوات} والحجاج بن يوسف والجحدري أيضاً وصلوات وهي مساجد النصارى بضمتين من غير ألف ومجاهد كذلك إلا أنه بفتح التاء وألف بعدها والضحاك والكلبي وصلوث بضمتين من غير ألف وبثاء منقوطة بثلاث، وجاء كذلك عن أبي رجاء والجحدري وأبي العالية ومجاهد كذلك إلاّ أنه بعد الثاء ألف.
وقرأ عكرمة: وصلويثا بكسر الصاد وإسكان اللام وواو مكسورة بعدها ياء بعدها ثاء منقوطة بثلاث بعدها ألف، والجحدري أيضاً {صَلوات} بضم الصاد وسكون اللام وواو مفتوحة بعدها ألف بعدها ثاء مثلثة النقط. وحكى ابن مجاهد أنه قرئ كذلك إلا أنه بكسر الصاد. وحكى ابن خالويه وابن عطية عن الحجاج والجحدري صلوب بالباء بواحدة على وزن كعوب جمع صليب كظريف وظروف، وأسينة وأسون وهو جمع شاذ أعني جمع فعيل على فعول فهذه ثلاثة عشرة قراءة والتي بالثاء المثلثة النقط.
قيل: هي مساجد اليهود هي بالسريانية مما دخل في كلام العرب. وقيل: عبرانية وينبغي أن تكون قراءة الجمهور يراد بها الصلوات المعهودة في الملل، وأما غيرها مما تلاعبت فيه العرب بتحريف وتغيير فينظر ما مدلوله في اللسان الذي نقل منه فيفسر به. وروى هارون عن أبي عمرو {صلوات} كقراءة الجماعة إلاّ أنه لا ينون التاء كأنه جعله اسم موضع كالمواضع التي قبله، وكأنه علم فمنعه الصرف للعلمية والعجمة وكملت القراءات بهذه أربع عشرة قراءة والأظهر في تعداد هذه المواضع أن ذلك بحسب معتقدات الأمم فالصوامع للرهبان. وقيل: للصابئين، والبيع للنصارى، والصلوات لليهود، والمساجد للمسلمين وقاله خصيف. قال ابن عطية: والأظهر أنه قصد بها المبالغة في ذكر المتعبدات، وهذه الأسماء تشترك الأمم في مسمياتها إلاّ البيعة فإنها مختصة بالنصارى في عرف لغة ومعاني هذه الأسماء هي في الأمم التي لهم كتاب على قديم الدهر، ولم يذكر في هذه الآية المجوس ولا أهل الإشراك لأنّ هؤلاء ليس لهم ما يَوجب حمايته ولا يوجد ذكر الله إلاّ عند أهل الشرائع انتهى.
والظاهر عود الضمير في قوله {يذكر فيها} على المواضع كلها جميعها وقاله الكلبي ومقاتل، فيكون {يذكر} صفة للمساجد وإذا حملنا الصلوات على الأفعال التي يصليها أهل الشرائع كان ذلك إما على حذف مضاف أي ومواضع صلوات وإما على تضمين {لهدمت} معنى عطلت فصار التعطيل قدراً مشتركاً بين المواضع والأفعال، وتأخير المساجد إما لأجل قدم تلك وحدوث هذه، وإما لانتقال من شريف إلى أشرف. وأقسم تعالى على أنه تنصر من ينصر أي ينصر دينه وأولياءه، ونصره تعالى هو أن يظفر أولياءه بأعدائهم جلاداً وجدالاً وفي ذلك حض على القتال. ثم أخبر تعالى أنه قوي على نصرهم {عزيز} لا يغالب.
والظاهر أنه يجوز في إعراب {الذين إن مكناهم في الأرض} ما جاز في إعراب {الذين أخرجوا} وقال الزجاج: هو منصوب بدل ممن ينصره، والتمكين السلطنة ونفاذ الأمر على الخلق، والظاهر أنه من وصف المأذون لهم في القتال وهم المهاجرون، وفيه إخبار بالغيب عما يكون عليه سيرتهم إن مكن لهم في الأرض وبسط لهم في الدنيا، وكيف يقومون بأمر الدين.
وعن عثمان رضي الله عنه: هذا والله ثناء قبل بلاء، يريد أن الله قد أثنى عليهم قبل أن يحدثوا من الخير ما أحدثوا، وقالوا: فيه دليل على صحة أمر الخلفاء الراشدين لأن الله تعالى لم يجعل التمكن ونفاذ الأمر مع السيرة العادلة لغيرهم من المهاجرين لا حظ في ذلك للأنصار والطلقاء. وفي الآية أخذ العهد على من مكنه الله أن يفعل ما رتب على التمكين في الآية. وقيل: نزلت في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وعن الحسن وأبي العالية: هم أمّته عليه السلام. وعن عكرمة: هم أهل الصلوات الخمس، وهو قريب مما قبله. وقال ابن أبي نجيح: هم الولاة. وقال الضحاك: هو شرط شرطه الله من آناه الملك.
وقال ابن عباس: المهاجرون والأنصار والتابعون {ولله عاقبة الأمور} توعد للمخالف ما ترتب على التمكين {وإن يكذبوك} الآية فيها تسلية للرسول بتكذيب من سبق من الأمم المذكورة لأنبيائهم، ووعيد لقريش إذ مثلهم بالأمم المكذبة المعذبة وأسند الفعل بعلامة التأنيث من حيث أراد الأمة والقبيلة، وبنى الفعل للمفعول في {وكذب موسى} أن قومه لم يكذبوه وإنما كذبه القبط {فأمليت للكافرين} أي أمهلت لهم وأخرت عنهم العذاب مع علمي بفعلهم، وفي قوله {فأمليت للكافرين} ترتيب الإملاء على وصف الكفر، فكذلك قريش أملى تعالى لهم ثم أخذهم في غزوة بدر وفي فتح مكة وغيرهما، والأخذ كناية عن العقاب والإهلاك، النكير مصدر كالندير المراد به المصدر، والمعنى فكيف كان إنكاري عليهم وتبديل حالهم الحسنة بالسيئة وحياتهم بالهلاك ومعمورهم بالخراب؟ وهذا استفهام يصحبه معنى التعجب، كأنه قيل: ما أشد ما كان إنكاري عليهم وفي الجملة إرهاب لقريش {فكأين} للتكثير، واحتمل أن يكون في موضع رفع على الابتداء وفي موضع نصب على الاشتغال.
وقرأ أبو عمرو وجماعة أهلكتها بتاء المتكلم، والجمهور بنون العظمة {وهي ظالمة} جملة حالية {فهي خاوية على عروشها} تقدم تفسير هذه الجملة في البقرة في قوله {أو كالذي مر على قرية} وقال الزمخشري: فإن قلت: ما محل الجملتين من الإعراب؟ أعني {وهي ظالمة فهي خاوية} قلت: الأولى في محل نصب على الحال، والثانية لا محل لها لأنها معطوفة على {أهلكناها} وهذا الفعل ليس له محل انتهى.
وهذا الذي قاله ليس بجيد لأن {فكأين} الأجود في إعرابها أن تكون مبتدأة والخبر الجملة من قوله {أهلكناها} فهي في موضع رفع والمعطوف على الخبر خبر، فيكون قوله {فهي خاوية} في موضع رفع، لكن يتجه قول الزّمخشري على الوجه القليل وهو إعراب {فكأين} منصوباً بإضمار فعل على الاشتغال، فتكون الجملة من قوله {أهلكناها} مفسرة لذلك الفعل، وعلى هذا لا محل لهذه الجملة المفسرة فالمعطوف عليها لا محل له.
وقرأ الجحدري والحسن وجماعة {معطلة} مخففاً يقال: عطلت البئر وأعطلتها فعطلت، هي بفتح الطاء، وعطلت المرأة من الحليّ بكسر الطاء. قال الزمخشري: ومعنى المعطلة أنها عامرة فيها الماء ومعها آلات الاستقاء إلاّ أنها عطلت أي تركت لا يستقى منها لهلاك أهلها، والمشيد المجصص أو المرفوع البنيان والمعنى كم قرية أهلكنا، وكم بئر عطلنا عن سقاتها و{قصر مشيد} أخليناه عن ساكنيه، فترك ذلك لدلالة {معطلة} عليه انتهى.
{وبئر} {وقصر} معطوفان على {من قرية} و{من قرية} تمييز لكأين، {وكأين} تقتضي التكثير، فدل ذلك على أنه لا يراد بقربه وبئر وقصر معين، وإن كان الإهلاك إنما يقع في معين لكن من حيث الوقوع لا من حيث دلالة اللفظ، وينبغي أن يكون {بئر} {وقصر} من حيث عطفا على {من قرية} أن يكون التقدير أهلكتهما كما كان أهلكتها مخبراً به عن {كأين} الذي هو القرية من حيث المعنى. والمراد أهل القرية والبئر والقصر، وجعل {وبئر معطلة وقصر مشيد} معطوفين على {عروشها} جهل بالفصاحة ووصف القصر بمشيد ولم يوصف بمشيد كما في قوله في {بروج مشيدة} لأن ذلك جمع ناسب التكثير فيه، وهذا مفرد وأيضاً {مشيد} فاصلة آية.
وقد عين بعض المفسرين هذه البئر. فعن ابن عباس أنها كانت لأهل عدن من اليمن وهي الرس. وعن كعب الأحبار أن القصر بناه عاد الثاني وهو منذر بن عاد بن إرم بن عاد. وعن الضحاك وغيره: أن البئر بحضرموت من أرض الشحر، والقصر مشرف على قلة جبل لا يرتقى، والبئر في سفحه لا يقر الريح شيئاً يسقط فيها. روي أن صالحاً عليه السلام نزل عليها مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به ونجاهم الله من العذاب. وهي بحضرموت، وسميت بذلك لأن صالحاً حين حضرها مات وثم بلدة عند البئر اسمها حاضورا بناها قوم صالح وأمروا عليهم جليس بن جلاس، وأقاموا بها زمناً ثم كفروا وعبدوا صنماً، وأرسل إليهم حنظلة بن صفوان، وقيل: اسمه شريح بن صفوان نبياً فقتلوه في السوق فأهلكهم الله عن آخرهم وعطل بئرهم وخرب قصرهم. وعن الإمام أبي القاسم الأنصاري أنه قال: رأيت قبر صالح بالشام في بلدة يقال لها عكا فكيف يكون بحضرموت.

1 | 2 | 3 | 4